الفصل الثالث: تجربة الحياة و الموت
أ ـ العوامل السياسية و التاريخية للتجربة:
لقد بيّن النّاقد في الفصل الثاني أهم آثار
النكبة الفلسطينية على الإنسان
العربي التي تجسدت في الغربة والضياع. لكنّ الواقع
العربي في العشرين سنة التي تلت النكبة سيشهد تحولات
جذرية و هزات عنيفة تمثلت في:
ـ ثورة مصر سنة 1952 ـ تأميم قناة السويس ـ رد العدوان الثلاثي على
مصر
ـ استقلال أقطار العالم العربي ـ الوحدة بين مصر و سوريا. . .
الشيء الذي جعل لسان الواقع العربي ينطق بنغمات أخرى تمثلت في عودة الأمل و التفاؤل. فإيقاع اليأس كان الوجه الأول لعملة كان وجهها الثاني إيقاع الأمل الذي ساد بعد النكبة، فأثمر تجربة الحياة والموت، فتولدت في أعماق الشاعر معاني الولادة و التجدد و البعث، و أصبح الموت هو الطريق إلى الحياة و المستقبل، و هي فكرة قريبة من فكرة تناسخ الأرواح التي عبر عنها الشاعر المهجري كجبران و ميخائيل. و هذه التجربة مرتبطة مع تجربة الغربة و متداخلة معها. وقد انعكس ذلك في أشعار بعض شعراء هذه المرحلة، ذكر منهم أحمد المجاطي أربعة هم:
بدر شاكر السياب، و خليل حاوي، و أدونيس، و عبد الوهاب البياتي.
ب ـ الروافد الفكرية و الثقافية:
تجربة الحياة و الموت مرتبطة بالمستقبل، فهي أقرب إلى فكرة الفداء عند المسيحيين، و الشاعر الحديث بمثابة البطل الأسطوري و النبي الذي سيجعل الإحساس بالموت إحساسا بالحياة. لذلك لجأ إلى الثقافات الإنسانية الكونية فأخذ منها الرموز، و الأساطير الوثنية و البابلية واليونانية والفينيقية والعربية و الفرعونية...، كما أخذ من المعتقدات المسيحية و التراث العربي الإسلامي...؛ فاستغل الشاعر الحديث فكرة الصراع بين آلهة الخير و الهة الشر، فوظف الأساطير و الرموز، و من أبرزها نذكر: تموز، وعشتار، وأورفيوس، وطائر الفينيق، و شهرزاد، ومهيار الدمشقي، والعنقاء، والسندباد، وعمر الخيام، والحلاج،...
الشيء الذي أثمر منهجا
أسطوريا عبر بواسطته الشاعر عن مشاعره و
أحاسيسه في صور رمزية تخاطب اللاشعور. وقد قام
الناقد المعداوي بدراسة تجارب أربعة شعراء كان
لكل منهم أسلوبه في الإفادة من المنهج الأسطوري، و هم: علي أحمد سعيد (أدونيس)، و خليل حاوي و بدر شاكر السياب و عبد الوهاب البياتي.
1ـ أدونيس : التحول عبر الحياة و الموت
تبلورت تجربة
الحياة و الموت عنده ابتداء من ديوانه الثاني
"أوراق في الريح"، حيث استغل
أسطورة الفينيق، و ما يلاحظ حول تجربته هو صدورها عن ذات محتقنة
بفحولة التاريخ العربي، في واقع يفتقر إلى الفحولة والخصب، ومحتقنة بجموح الحضارة العربية قبل أن يسلط سيف الاستعمار على
عنقها. كان موقف
أدونيس من الواقع العربي المنهار هو موقف الرافض للموت، لذلك كان في شعره اتجاهان
اتجاه الأول: ينطلق من الحيرة والتساؤل إلى البحث عن
وسيلة للبعث، يقول في قصيدته "الرأس
و النهر":
أبحث في مملكة الرماد
عن وجهك المدفون يا بلادي
لينتهي إلى اكتشاف الانهيار الكامل الذي يسود الواقع العربي.
اتجاه الثاني: ينطلق من اكتشاف مفهوم التحول
بصفته وسيلة لدفع الواقع العربي نحو البعث والتجدد.
2 ـ خليل حاوي: معاناة الموت و الحياة
رفض خليل مبدأ التحول و أقام مقامه مبدأ "المعاناة" حيث نجد في دواوينه الثلاثة: (نهر الرماد) و( الناي والريح) و(بيادر الجوع)، معاناة حقيقية في ظل واقع يجسد الخراب و الدمار و المعاناة و الموت، يقول في قصيدته "البحّار و الدرويش":
خلّني للبحر، للريح، لموت
ينشر
الأكفان، زرقا للغريق
مبحر
ماتت بعينيه منارات الطريق
و تستمر تيمة المعاناة في كل قصائد الديوان كما في قصيدته "دعوة
قديمة". و يتحقق البعث عنده لكن بعد مخاض عسير، حيث يقول:
صرخة
تقطيع أرحام،
و تمزيق
عروق،
لينتهي الشاعر إلى اليأس من البعث عبر المعاناة في "نهر الرماد"، و التحول في "الناي و الريح"، و الخيبة في "بيادر الجوع" الذي كُتِب قبيل النكسة بقليل. و قد أفاد من المنهج الأسطوري بتوظيفه لأسطورة "تيمور" بشكل كبير.