بنية رواية "اللص والكلاب " الفنية: التأليف، والمكان، والزمان، والحوار، والوصف، والرؤية السردية
1 ـ تأليف الرواية:
رسم نجيب
محفوظ في رواية "اللص
و الكلاب" شخصية درامية مأساوية، تمثلت في
شخصية "سعيد مهران"، حيث بدأت
الرواية بلحظة خروج البطل من السجن، "مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية"ص:7، لتنتهي بلحظة
استسلامه، "فاستسلم...
بلا مبالاة...بلا مبالاة"ص175، و بين لحظتي البداية و النهاية تشكلت رواية من ثمانية عشر فصلا
جمع بينها وحدة الشخصية المحورية، و اعتماد الروائي على عدة
تقنيات من: استباق
و استرجاع و حذف و تكثيف و تداعي و انشطار...، بالتركيز على مشكلة
البطل، وتسليط الضوء عليها، لإضاءة أزمتها الروحية و الاجتماعية في فترة زمنية
تتميز بالجدالية...
2ـ الزمان:
تعرض الرواية لأزمة
اجتماعية و نفسية و أخلاقية و فكرية، حيث تتلاحق الأحداث بطريقة تتابعية تذكرنا بالرواية
التقليدية، فهي تنطلق من لحظة الخروج من
السجن والرغبة في الانتقام لتنتهي بمحاصرة البطل بالمقبرة واستسلامه. لكن عندما
نتأمل التركيب الفني للرواية، نجد أن الكاتب استعمل
الزمن فيها كأداة تشخص بقوة أسئلة الفرد في واقع قهري، حيث ركز على الزمن النفسي وجعله نافذة تلتقط من
خلالها مشاكل البطل وهمومه، فقد
أهمل أحداثا كثيرة، و اعتمد على التكثيف و القفز، ليركز على
لحظة الانتقام من أجل
تصوير الجانب النفسي العميق للشخصية.
أـ الزمن النفسي:
يتمظهر في الرواية من خلال حدة الأزمة التي يعيشها البطل، وما ولدته من إحباط وشعور بالخيبة والعزلة.
فمنذ افتتاحية الرواية نجد الزمن النفسي حاضرا بقوة، فبمجرد تخطي البطل لأزمة
السجن، سيجد نفسه وحيدا
تحت أشعة الشمس الحارقة و الغبار الخانق في مواجهة أزمة أخرى تتمثل في خيانة زوجته
له و خيانة صديقه الوفي عليش، حيث يقول: "هذه الطرقات المثقلة
بالشمس"، ص:7، وعندما لم يجد من يهتم به قرر التوجه
إلى صديقه رؤوف علوان، لكنه سيقف على خيانة أخرى أعظم وقاحة من الأولى، فبدا العالم في نظر البطل متأزما ومتدهور القيم وفارغ
الروح،
يقول: "أما الآخر فقد مضى كأمس أو كأول يوم في التاريخ"،
ص47. ومع تقدم الأحداث في الرواية وتعقد لحظاتها يبرز التأثير الفعال للزمن النفسي، الشيء الذي دفع البطل إلى استرجاع لحظات أزمته، كلحظة موت أمه، حيث يقول السارد: "وجدت نفسك وأمك في
قاعة استقبال عند المدخل...، وبدا المكان كله وكأنما يأمرك بالابتعاد ولكنك كنت في
مسيس الحاجة إلى إسعاف، إسعاف سريع…"
ص:113. و سيشتد الزمن النفسي بطءا و ضغطا مع فشل البطل في
الانتقام، وارتكابه للجريمتين، لتتسارع الأحداث معلنة نهاية مغامرة البطل المأساوية...
ب ـ زمن السرد:
جاء الزمن في الرواية زمنا تصاعديا يبتدئ بالخروج من السجن إلى المطاردة و الاستسلام،
غير أن هذا الزمن يجنح إلى
الماضي بالاعتماد على تقنيتي الاسترجاع و التداعي كما في الفصلين العاشر و الحادي
عشر،
من أجل الكشف عن الأزمة الداخلية للبطل...
ج ـ الزمن الواقعي:
يحضر الزمن الواقعي بشكل واضح في الرواية، حيث راهن الكاتب على واقعية الأحداث من أجل التأثير في القارئ، من خلال استلهامه لحادثة واقعية و هي حادثة السفاح محمود أمين سليمان، ثم اعتماده على المؤشرات الزمنية الواقعية بكثرة منذ بداية الرواية: مرة أخرى ـ الشمس ـ الأعوام ـ أربعة ـ اليوم ـ قديما ـ الوقت...، الشيء الذي ساهم في إيهام القارئ بواقعية الرواية، و خلق تشويقا في بنيتها السردية، و بنائها العام...
3ـ المكان:
يكتسي الفضاء في هذه الرواية أهمية كبيرة. إذ لا يحضر الفضاء في الرواية باعتباره إطارا تزيينيا يؤثث به الروائي عالم الرواية، بل هو مكون جوهري وأساسي ينطق بمقصدية الروائي، و يعبر عن رهانه، ويمكِّن من فتح مغاليق الذات، وإظهار ما يتفاعل فيها من أنواع الشعور بالمعاناة والوحدة والعزلة و الفقر و التهميش و الخيانة و الانتهازية؛ فكل مكان يعبر عن أزمة صاحبه. و من أهم الفضاءات في الرواية نذكر:
أ ـ فضاء السجن:
أول فضاء تنفتح عليه الرواية، حيث يغادره سعيد مهران بعد أن قضى به أربع سنوات غدرا، فهو فضاء عزلة وحصار فيه يفقد الإنسان حريته، و يرمز إلى المعاناة، والخيانة، والألم، و الظلم، و الغدر...
ب ـ عطفة الصيرفي:
يمثل هذا الفضاء بالنسبة للبطل مشاعر مزدوجة ومتناقضة، ففيه ألقي القبض عليه بسبب السرقة، حيث يقول: " في هذه العطفة ذاتها
زحف الحصار كالثعبان ليطوق الغافل"ص8،
و يقول السارد: "و هذه العطفة الغريبة عطفة
الصيرفي، الذكرى المظلمة، حيث سرق السارق، و في غمضة عين انطوى"ص:9.
كما يمثل ذكريات جميلة، تتعلق
بزواجه من نبوية؛ حيث يقول: "وقبل ذلك بعام خرجت
من العطفة تحمل دقيق العيد والأخرى تتقدمك حاملة سناء في قماطها، تلك الأيام
الرائعة التي لا يدري أحد مدى صدقها". ص: 8.
ج ـ بيت الشيخ:
مسكن بسيط يتكون من حوش كبير غير مسقوف، في ركنه الأيسر نخلة
عالية، و في اليمين حجرة وحيدة، ذات فراش بسيط، معطرة بالبخور. حيث يقيم الشيخ علي الجنيدي المتصوف صديق والده. و
يتميز هذا المكان بالبساطة
والفقر والتواضع والسكينة والاطمئنان والعزلة عن العالم، كما أنه مأوى لا يغلق أبدا، "الباب المفتوح،
المفتوح دائما" ص: 21، يلجأ إليه البطل في لحظات الشدة لكنه لا يشعره فيه بالراحة، لأن رؤيته تختلف عن
رؤية صاحبه الشيخ.
د ـ شقة نور:
شقة متواضعة، تطل على المقابر، توجد بحي القرافة قرب المقبرة،
تتكون من مدخل مستطيل صغير، و حجرة
جانبية ذات حجم متوسط مربعة الشكل. يكتسي هذا الفضاء أهمية كبيرة بالنسبة للبطل، وعلى الرغم من أنه لم يكن قادرا حتى على إشعال
شمعة فيه خوفا من إثارة انتباه الجيران له، حيث يقول: "إذ يجب أن تبقى الشقة
صامتة كالقبر" ص: 105، إلا أنه كان يجد فيه قدرا من الإنسانية في نور المرأة التي آوته
وبادلته مشاعر الصدق والمحبة في أحلك الظروف...
هـ ـ مقهى طرزان:
متوغلة في الصحراء، يصفها البطل قائلا: "الحجرة المستديرة، والنصبة...